الأوقاف.. ضرورة التنظيم والوعي
محمد الدحيم
من المسلَّم به أن فكرة الأوقاف في الفقه الإسلامي أخذت وقتها للنضج كأحكام وضوابط وأقضية شرعية، وتكونت منها بعض بيوت الخبرة من خلال بعض المحامين والنظار، أو من خلال المؤسسات الوقفية الخاصة. ولكن ذلك وحده لا يكفي، فالأوقاف أموال وللأموال قوانينها، وقد دخل موضوع الأوقاف عالمياً وعربياً حقبة جديدة من الوعي، حيث وجدت تقنيات حديثة في حوكمته وتطويره، كما وُجدت تجارب تستحق أن يتأسس عليها الكثير من أعمال التطوير في أحكام الوقف وتنويع موجوداته وتعديد مصارفه، حتى يؤدي دوره الاجتماعي الفاعل في الحركة العلمية، والمشاركة في تحسين الصحة، وتنمية الحياة الإنسانية، وهو ما يسمى بالقطاع الثالث في المجتمع المدني، فيُحتم ألا يبقى في إطاره الضيق وتحت سلطة أو نظارة رمزية محددة، بل يجب أن تنشط الإدارة العامة لخلق تخصص مهم في مجال الإدارة الوقفية، حيث يدخل الوقف عالم الاستثمار بكل ما يعنيه من التنافسية والبعد الاستراتيجي في الإدارة والتشغيل والتطوير والصيانة. وهي أمور ليست بقدرة الإدارة العادية والنظارة اللاواعية. ونحن في المملكة - ولله الحمد - نعيش ثقافة عريقة للوقف في بعده الديني والاجتماعي، لكن هذه الثقافة تحتاج إلى تعزيز ودعم بالتطورات التي حدثت في المفهوم الوقفي. كما يحتاج مجتمعنا إلى سرعة تنظيم الأوقاف وخلق الإدارة العامة المستقلة له.
وهو ما صدر به توجيه خادم الحرمين الشريفين منذ أعوام، إلا أنه أخذ وقتاً كثيراً في دوائر التشريع والتنظيم. وأرجو ألا يستمر أكثر من ذلك؛ لأن خصوصية المملكة الدينية والمجتمعية ورمزيتها العربية والإسلامية تقتضيان السبق المميز في هذا الموضوع. وإن تأسيس هيئة عامة للأوقاف تُعنى بإعادة مفهوم الوقف وصيغه الإثباتية بالمعنى الحضاري للوقف، ليكون فاعلاً وفق رؤية أوسع وأشمل، بما تقتضيه الحال المتطورة التي يعيشها الإنسان اليوم. كما يؤمل في هذه الهيئة أن تقوم بتنظيم الأوقاف والإشراف عليها واستثمارها بفكر اقتصادي حديث، وفق الأسلوب الأمثل للإدارة للتجارة والاستثمار. ومما يجب أن يتأكد في وعي الإدارة الوقفية قضايا النظارة للأفراد والمجالس، وألا يتم الإشراف بما يعني السلطة والتدخل في إرادة الواقف أو تصرف الناظر ما لم يثبت عكس المصالحة؛ لأن هذه المعاناة حجبت كثيراً من الناس عن الوقف لما يشعرون به أن أوقافهم خرجت من إدارتهم، وكأنها أوقاف عامة لا خاصة. ولذلك فإن وضوح التنظيم الإداري للوقف وآلية الإشراف عليه، وإنتاج الصيغ الوقفية، الأكثر وعياً وملاءمة للمرحلة العصرية مع قابليتها للتطوير، أمر في غاية الأهمية، ونحن في مرحلة التأسيس التشريعي والتنظيمي للمؤسسة من أهم الكيانات المالية المجتمعية، التي تحظى بالتقدير المجتمعي والشعور بالمسؤولية الدينية تجاهه.
وتأتي هذه المقالة مشاركة مع مقالات وبحوث تسعى لبلورة المؤسسة الوقفية القادمة وطريقة أدائها واستشراف مستقبلها الجميل بإذن الله، وهي دعوة لكل المهتمين بالمشاركة بكل ما يدعم وجود وتنمية وإدارة الوقف بالمملكة التي تنتشر فيها الأوقاف القديمة في معظم المدن والقرى، كما تنشط فيها المؤسسات الوقفية للأفراد والجمعيات الخيرية، وهنا أذكر وأشكر جهود الملتقى الثاني للأوقاف الذي نظمته الغرفة التجارية بالرياض أوائل هذا العام، الذي تميز عن غيره بأوراق العمل التي تحمل الكثير من الرؤى العلمية والعملية، وأرجو أن يستمر العطاء وأن يشارك الإعلام بكل وسائله في تنمية وبث ثقافة الوقف بين أفراد المجتمع ومؤسساته، حتى تتبنى المؤسسات في الدولة مثل الصحة والتعليم وغيرها مما له مساس خدماتي مجتمعي بتأسيس الأوقاف التي تضمن - بمشيئة الله - استمرار الخدمات وتسمح بالمشاركة المجتمعية فيها، إذ لا يصح أن نستمر مجتمعاً يستهلك ويأخذ ولا يعطي، ولا يصح أن ينشأ الشباب والفتيات على ضعف العطاء الإنساني بسبب قصور المفاهيم الإدارية للأعمال الخيرية والإنسانية. لذلك فنحن نؤمل في الهيئة العامة للأوقاف حال وجودها الخير الكثير وستكون كذلك بإذن الله.
المصدر:
الحياة