مليارات الوقف.. تحل مشكلة الفقر والبطالة
عبدالعزيز قاسم
المؤسسات الوقفية في الغرب على شكل جامعات أو مستشفيات أو شركات أو أسهم في شركات. أجزم بأن رجال الأعمال المفكرين، لو صاغوا طرائق مناسبة للوقف، لقضينا على الفقر في بلادنا
كنت أردد لصديق أثير موسر قبل فترة، بأن فكرة إخراج الزكاة والصدقات في حاضرنا اليوم، تحتاج لثقافة جديدة. الأفضل له – وللأثرياء عموما- جمع زكاة خمس سنوات وأزيد، وإقامة مشروع خيري كبير للمحتاجين، يتيح لهؤلاء الذين لا يجدون القوت التدرب والعمل، كما تفعل شركة عبداللطيف جميل في مشروعها الأروع "باب رزق جميل"، إذ إن انخراط هؤلاء في العمل - وخصوصا النسوة- يعود بالفائدة عليهم وعلى المجتمع، ويفيد سوق العمل، ويخفف نسبة الفقراء كل عام.
مثل هذه المشروعات التي تنسلك إيجابا في التنمية المستدامة لبلادنا، تحتاج إلى ميزانية لا تتأتى إلا بالأوقاف التي تحملها ماديا، إذ لا يصح أن يحول الحول عليها، فيبدأ القائمون على تلكم المشروعات رحلة استجداء منهكة، كما هو حال كثير من مشروعاتنا الخيرية، التي يضمحل معظمها بعد سنوات قلائل من البدء بها للأسف الشديد.
لذلك كانت حفاوتي كبيرة بخبر إيقاف الشيخ حمد الغماس أبراجه السكنية في مكة المكرمة، البالغة قيمتها مليارا ومئتي مليون ريال لأعمال البر، ليضع اسمه في سجل مضيء، سطر فيه أسماء كبار الصحابة والتابعين والقادة العظام والأثرياء الصالحين، وربما سبقه في هذا السجل الإيماني الخالد قبل سنوات قليلة: الشيخ صالح الراجحي – يرحمه الله- الذي أوقف ثلث أمواله، وكانت تربو على خمسة عشر مليار ريال، وتبعه شقيقه سليمان بإيقاف ثلثي أمواله – كما جاء في الوكيبيديا- وهي التي تناهز عشرات المليارات من الريالات. وقبل هؤلاء جميعا، وقف مليكنا عبدالله بن عبدالعزيز -يحفظه الله- لوالديه.
لدينا عديدون بلغوا درجة بعيدة في الثراء، بفعل النعم التي أفاء الله بها على أهل هذه البلاد، نطالع أسماءهم في تصنيفات "فوربس" وغيرها من المجلات العالمية المتخصصة، وأجزم بأن ثمة أسماء أزيد من التي نطالعها ونعرفها، هم أكثر ثراء وبسطة في المال، بيد أنهم لا يفصحون عن أموالهم، وإلا لتجاوز هؤلاء في ثرواتهم، الأسماء السعودية والخليجية المعروفة، ونعلم أن في ذلك البعض خيرا وديانة، نرجو أن يختم الله لهم بفعل الخيرات، فنعم المال الصالح للرجل الصالح، ولا أفضل من صدقة يوقفونها بحياتهم، يصل ثوابها لهم بعد أن يوسدوا التراب.
فكرة الوقف قديمة، وحفظت ذواكرنا بعض الأوقاف الشهيرة التي انبجست من مواقف عظيمة لأصحابها، فهناك وقف سيدنا عثمان بن عفان "بئر أرومة" التي اشتراها بعزيز ماله، وأوقف ماءها العذب للمسلمين، ودعا له رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم. وهناك بستان "بيرحاء" للصحابي الجليل طلحة بن عبيدالله، وكانت من أثمن وأحب ما يملك، أوقفه بعدما نزلت الآية: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون".
توسعت ثقافة الأوقاف في عهد الأمويين ومن بعدهم العباسيين بشكل عريض، فنعرف وقف "عين زبيدة" الشهير، لزوجة هارون الرشيد، يرحمهما الله، ولا يزال باقيا ليومنا هذا، وسيدهش القارئ الكريم بما تملكني، وأنا أطالع بعضا من الكتابات والدراسات عن الأوقاف أثناء إعداد هذه المقالة، فقد شملت الأوقات في عصورنا الإسلامية الغابرة كل أمور الحياة، ووصلت حتى لأوقاف وضعت للكلاب الضالة، تعكس إنسانية عالية، تمتع بها ذلك السلف.
وأنقل هنا ما تحدث عنه ابن بطوطة في رحلته بإعجاب وانبهار، فقال عن أوقاف دمشق: "والأوقاف بدمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها؛ لكثرتها، فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، يُعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن، وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل، يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها، لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير".
ما زلت أذكر تلك التكايا التي أوقفها موسرو الجاليات التي سكنت مكة المكرمة والمدينة المنورة، لأولئك الأفراد من جماعتهم الذين انقطع بهم السبيل من الحجاج، أو الذين تفرغوا للعبادة في هاتين المدينتين، وآثروا قضاء بقية حياتهم منقطعين للآخرة، وتلمست الطريقة الإنسانية البديعة التي كانت تدار بها تلكم الأربطة. وفي مدينتي الطائف أدركت كثيرا من تلك الأربطة للجالية البخارية والتركستانية، وساكنوها من الأرامل والعجزة والكهول، وقد تسابق –ليس فقط الموسرون- بل حتى ذوي الدخول المتوسطة لتقديم الطعام والأكسية لهم بتلك الدور، في تكافل إنساني خلاب.
رصد بعض الباحثين ما طوره الغرب لفكرة الوقف في عصرنا الحديث، ويحكي الباحث سامي سلمان بأنه توجد بعض المؤسسات الوقفية في الغرب على شكل جامعات أو مستشفيات أو شركات أو أسهم في شركات، وتزاول أعمالها وأنشطتها التجارية غالبا على اعتبار أنها مؤسسات غير ربحية معفاة من الضرائب. وإن فرحنا بهذا الوقف من الشيخ الغماس وغيره، إلا أن الأرقام التي قرأناها عن الوقف في بلاد الغرب، لتشعرنا بالضآلة، فهناك أنواع متعددة لدى القوم هناك من الأوقاف، من أبرزها: المؤسسات الوقفية الخاصة ويصل عددها إلى 103,880 مؤسسة مسجلة، وهي تشكل 74% من العدد الحقيقي لتلك المؤسسات.. دخلها من السيولة المالية لعام 2005 ما يقارب 242 مليار دولار، ولديها أصول ثابتة تتجاوز قيمتها 421 مليار دولار. ومن أبرزها كذلك المؤسسات الخيرية العامة، ويصل عددها إلى 332,988 مؤسسة مسجلة، وهي تشكل 39% من العدد الفعلي، وكانت السيولة والتبرعات التي قدمت لها عام 2005 تقارب 1,5 تريليون دولار، وتصل قيمة أصولها الثابتة للعام نفسه نحو تريليوني دولار.
وتؤكد الأرقام السابقة أن الأوقاف تعد من أقوى محركات التنمية المستدامة البشرية والمادية في الغرب.
ما أود إيصاله في هذه المقالة، بضرورة تسليط الضوء من قبل النخب الاقتصادية والشرعية لموضوع الوقف، وضرورة بناء ثقافة عصرية له، وأجزم بأن رجال الأعمال المفكرين، لو صاغوا طرائق مناسبة لها، لقضينا على الفقر في بلادنا، وحولنا هؤلاء الفقراء إلى أيد عاملة مساهمة في التنمية.
عودا للشيخ حمد الغماس، نقول له: "ربح البيع أبا هانئ، ولا تنس الإعلام الهادف والعاملين فيه، اضرب لهم بسهم أو أسهم من وقفك، فمثلك يدرك كيف هو أثر هذا الإعلام في الدعوة
".
المصدر:الوطن